اقتصاد وأعمالمواضيع مختارة

أكبر تحد أمام مبادرة ” الحزام والطريق” الصينية

د. يربان الحسين الخراشي

عد مرور خمسة سنوات على إعلان مبادرة الحزام والطريق، وعلى الرغم من انضمام 106 دول، و29 منظمة دولية، والتوقيع على 150 وثيقة تعاون مع الصين في إطارهذه المبادرة، وتخصيص الصين مليارات الدولارات لتمويل مشاريعها، حيث وصل الاستثمار الصيني المباشر في الدول الواقعة على طول الحزام والطريق إلى أكثر من 80 مليار دولار أمريكي، وتم تأسيس 82 منطقة تعاون اقتصادي وتجاري في هذه الدول؛ مما رفع حجم التبادل التجاري لهذه الدول مع الصين خلال السنوات الخمس الماضية إلى حوالي 5.5 تريليون دولار أمريكي.

ومع ذلك لا تزال هناك تحديات كثيرة تواجهها هذه المبادرة عالميا نذكر منها : تخوش عالمي من أن تكون طريق الحرير طريقا لتصدير النموذج الصيني، و تصدير الاشتراكية ذات الخصائص الصينية. هذا التخوش ترجمه خطاب الرئيس الأمريكي ترامب قبل أيام أمام الدورة الـ73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث دعى زعماء العالم إلى مكافحة الإيديولوجية الاشتراكية والشيوعية، كما يتخوش البعض من أن تكون الطريق مستقبلا طريقا لتوسيع تدخل الجيش الصيني عالميا تحت ذريعة حماية المصالح الصينية.
ومن التحديات الكبيرة التي تواجهها المبادرة الصينية المعارضة شبه العلنية الأمريكية -الهندية يضاف إلى ذلك،الموقف الأوروبي تجاه المبادرة الذي يتميز بالتناقض،. بل إن الاتحاد الأوروبي أعلن مؤخرا عن استراتيجية “الربط البيني الأورو-آسيوي” تستهدف تعزيز التعاون مع الدول الآسيوية عن طريق ربط شبكات البنية التحتية، و شبكات الطاقة، و شبكات الاتصال الرقمية الأورو-آسيوية ، وإقامة شراكات مع البلدان والمنظمات الآسيوية، ويقدر أن يتم رصد حوالي 350 مليار دولار في السنوات 3-9 القادمة لهذه الاستراتيجية، التي إن تمت المصادقة عليها خلال جلسة البرلمان الأوروبي المقبلة قد تشكل منافسة حقيقية لمبادرة الحزام والطريق الصينية، و رغم ذلك وصل عدد قطارات الشحن بين الصين وأوروبا التي تعد جزءا محوريا من مبادرة الحزام والطريق إلى 10 آلاف رحلة، وأصبحت خدمات الشحن الصينية عبر السكك الحديدية تربط 48 مدينة صينة بـ42 مدينة أوروبية.

وفي اعتقادي يبقى التحدى الكبير الذي واجه وسيبقى يواجه مبادرة “الحزام و الطريق” الصينية تحد من داخل الصين المتمثل في سور الصين، هذا السور ليس سور الصين العظيم الذي يشاهد من فوق السطح القمر، وقبلة لملايين السياح من مختلف أنحاء العالم سنويا، ورمزا لحب الأمة الصينية للسلام بل هو سور الصين الخفي رمز الانغلاق، وهو سور الصين الحقيقي.
إن رواسب أكثر من 2000 عام من الثقافة الاستبدادية الإقطاعية التي تعمقت إيديولوجيتها في المجتمع الصيني، بالإضافة إلى أكثر من 600 سنة من سياسية الانغلاق تركت سورا منيعا حول قلب وفكر كل صيني، بل وحتى حول الاقتصاد الصيني، و السوق الصيني، ورسمت بذلك السمات الأساسية لثقافة التقوقع على الذات المميزة للصين والصينيين.

تاريخيا كان هذا السورر الخفي السبب المباشر في تضييع الصين فرصة مواكبة ركب تقدم الحضارة العالمية مرتين تقريبا، حيث كانت المرة الأولى إبان حكم مملكة مينغ الصينية (1368 -1644) ، التي أصدر إمبراطورها الأول تشو يوان تشانغ (Zhu yuanzhang) سنة 1371م فرمانا يَقضي بحظر كافة الأنشطة البحرية، وعزل الصين عن العالم الخارجي نهائيا في فترة مهمة جدا من تاريخ تطور الملاحة البحرية، وكذلك تطور صناعة السفن الحربية؛ مما حرم الصين من دخول عصر الاستكشاف، و ظهور القوى العظمى التي غيرت وجه العالم.

أما المرة الثانية فكانت أثناء حكم إمبراطورية تشينغ الصينية (1644 -1912 ) ، وبذات سنة 1793 وصول السيد جورج ماكارتني (George Macartney) مبعوث بريطانيا العظمى إلى الصين، الذي جلب معه هدايا لاتعد ولا تحصى من أهمها ناتج الثورة الصناعية الأولى مثل : الآلة البخارية، وآلات النسيج، و نماذج للأسلحة، و السفن الحربية الحديثة لكن الإمبراطور الصيني الشهير تشيان لونغ (Qianlong)، الذي توصف فترة حكمه (1736 – 1796) بأنها حقبة إزدهار ورخاء لم يكترث لا هو، ولا 300 مليون صيني آنذاك بما كان يحدث في الغرب، الذي بدأ يخطو أولى خطواته نحو عالم صناعي بل آثر اللعب في قصوره المحرمة بهذه الآلات؛ مما قاد في النهاية إلى سقوط امبراطوريته، و جعل الصين تسير في ركب الدول المتخلفة المستعمرة ردحا من الزمن.
هذا السور هو أيضا السبب الرئيسي وراء ثقافة الحي الصيني (China Town) التي تميز الجاليات الصينية في الخارج في أمريكا، وكندا، وفرنسا ،والجزائر، وأنغولا، ودبي، حيث يعيش الصينيين على طريقتهم في أحياء معزولين عن محيط الدول التي يتواجدون فيها، وحتى الحرير الذي تسمت الطريق باسمه و أشتهرت الصين به أخفى هذا السور مصدره و طريقة صناعته عن العالم لأكثر من 2000 عام.

لا يختلف اثنان في العالم اليوم على أن الصين نجحت في فتح باب سور الصين المرئي على مصراعيه منذ 1978م، هذا الانفتاح مكن الصين، و بضائعها من الخروج إلى العالم الخارجي، والاستفادة منه قدر المستطاع لكن الانفتاح المنشود الآن هو فتح باب السور الصيني الخفي أمام العالم؛ مما سيقود إلى توسيع نطاق الوصول إلى أسواقها، وثقافتها، و قطاعاتها الاستثمارية و المالية، بالإضافة إلى تحملها المزيد من المسؤوليات الدولية بوصفها ثاني اقتصاد عالمي.
الصين اليوم على مفترق طرق حاسم في وقت يستعد العالم فيه لدخول عصر الثورة الصناعية الرابعة.. فهل سينجح القادة الصينيون في فتح باب سور الصين الخفي، الذي يكمن في قلب 1.383 مليار صيني، و يحيط بكل ماهو صيني؟ هذا الانفتاح قد يعيد طريق الحرير إلى ماكانت عليه إبان حكم مملكة تانغ الصينية (618 م -907 م) وبدونه تبقى طريق الحرير طريقا ذو اتجاه واحد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى