يتحدث الكل هنا عن تقدم الصين و عن كونها ثاني أقوى اقتصاد في العالم و عن الدور الكبير الذي لعبته الحكومات الشيوعية المتعاقبة في الرفع من مستوى المعيشة و الدفع بقطار التنمية نحو المقدمة، لكني اخترتُ أن أركز على حكومة موازية كان لها حسب اعتقادي الدور الأبرز فيما وصلت إليه الصين من تطور و استقرار.
أفضل تسميتها بحكومة الشارع و أعني بها المواطنين العاديين الذين تشبعوا على مر السنين بقيم و مبادئ لو طُبق في بلداننا ربعها لتغير حالها نحو الأفضل، محرك حكومة الشارع الصينية هو الضمير فالكل يعمل به و يحرص على حضوره في أي نشاط سواء كان إزالة قشرة موز من على الشارع إلى الإبلاغ عن عملة مزورة.
الصينيون هم من ينظمون أمورهم و الزائر لبكين سيكتشف بسهولة و من بوابة الدخول في المطار حجم النظام و المسؤولية و التفاني الذي يتعامل به الصينيون معك مواطنا كنتَ أم أجنبيا من رجال الشرطة و حتى عمال النظافة الذين يمسحون الأرضية بسعادة دون كلل أو ملل.
لا يحتاج المواطنون هنا إلى ” أمن الطرق” ليلتزموا بقوانين السير فالكل يتقيد بها و بانتظام حتى أن رجال شرطة المرور يكتفون بالدردشة مع بعضهم على جانبي الطريق فالمخالفات تكاد تكون معدومة و رغم الحشود الهائلة في الشوارع و عدد السيارات الكبير إلا أنك لن تلاحظ وجود أي إشكال مروري أو زحمة أو فوضى فلكل طريقه، الراجلون لهم طريقهم و الركبان لهم طريقهم و المرور يسير بسلاسة و هدوء.
و فيما يخص تنظيم المؤتمرات، لاحظتُ حرص الصحفيين الصينيين -إلى جانب احترامهم للطابور- على تسهيل عمل رجال الأمن عند التفتيش فتجدهم يخرجون متعلقاتهم المعدنية و يفتحون حقائبهم و يخلعون ستراتهم الثقيلة قبل أن يحين دورهم كما أنهم يسألون عن أي كرسي شاغر قبل الجلوس عليه.
و مع دخول المسئولين للمؤتمر الصحفي تتعالى صيحات المصورين الصحفيين الصينيين مطالبين إياهم برفع أيديهم تارة و الابتسام تارة أخرى و ينفذ المسئولون هذه الطلبات بحماس و ضحك هستيري لأنهم يعلمون أن المصورين حريصون على التقاط صور مناسبة و محترمة لهم.
فيما يتعلق بالمولات و المحلات التجارية، سيثير إعجابك شكل المحال وهندام البائعين و طريقتهم المؤدبة في لفت انتباهك نحو بضاعتهم، كلهم شباب تقريبا و يتحدثون الانجليزية و يمتنعون عن التحدث معك خارج محلهم احتراما لقانون السوق الذي يمنع عليهم ذلك.
تعتبر مدينة بكين من أكثر العواصم أمنا و يمكن التجول بها ليلا دون خوف كما أن السكان ودودين جدا و يبتسمون في وجهك دائما، يقدسون الضيوف ” الأجانب ” و يحرصون على كرم ضيافتهم و متعاونون للغاية مع الأمن عند الاشتباه في أي شخص و لا يترددون في التبليغ عن أي حادث مما قلّص نسبة الجرائم في العاصمة إلى أرقام قياسية مقارنة مع العواصم الآسيوية الأخرى.
قبل أيام ذهب صديقي لشراء بعض الدولارات من البنك و بعد ساعات اتصلت به موظفة البنك و أخبرته أنه حدث خطأ في الحساب و عليه يجب أن تسلمه ثلاث سنتات و هي شيء لا يذكر فأخبرها أن تحتفظ بالسنتات أو تتبرع بها و لا داعي أن تقطع كل تلك المسافة من أجل تسليمها له لكنها ضحكت و قالت أنها يجب أن تسلمها له و لو كان في آخر الدنيا و فعلا وصلت لإقامته و سلمتها له مضيفة أن التساهل في سنتات قليلة قد يقود الشخص مع الزمن إلى التساهل في مبالغ أكبر.
أمر آخر لفت انتباهي و هو كثرة نقاط التفتيش الالكترونية و المنتشرة أمام بوابات الجامعات و المراكز الإعلامية و الإدارات الحكومية و أمام باب الجامع الكبير في قلب بكين و كان الجميع و رغم الطوابير الطويلة مستمتعين و مرتاحين لاحترامهم للنظام عكسي طبعا حيث كنتُ مجبرا على الالتزام به.
إذن حكومة الشارع التي يتخطى عدد أفرادها المليار و 400 مليون نسمة هي المحرك الأول للتمنية في الصين و يلعب عناصرها الموزعين على الشوارع و المصانع و الشركات و النقل و النظافة و الأمن و الإعلام دورا أساسيا في بناء الصين الحديثة حيث يعمل كل فرد من مكانه على خدمة بلده و بقدراته المتاحة فيسهم بذلك في تعبيد الطريق نحو تحقيق ” الحلم الصيني ” الذي وضع أسسه الرئيس الحال شيجين بينغ و الذي يقوم على وضع الثقة الكاملة في أفراد الشعب مع تغذية الشعور القومي و التحفيز المستمر على الإبداع، و يعد من الأسباب التي قوت طموح الشعب الصيني الذي تخطى مرحلة توفير وسائل العيش إلى مرحلة ريادة الأعمال.
بالعودة إلى بلدي الحبيب موريتانيا، ألم يحن الوقت لتفعيل دور حكومة الشارع و العمل من خلالها على رسم صورة مشرقة للبلد الذي يعاني أزمة نظافة و مرور و صحة إلى آخر القوس، ما لذي ينقصنا كشعب حتى نستقيم و ننهض؟ هل هي التركيبة الجينية ؟ أم التراكمات الثقافية و العرقية ؟
ألا نحتاج إلى التوقف للحظة و الاعتراف بنقصنا و جهلنا و تخلفنا كما فعلت الصين قبل أن يعلنها شعبها جمهورية؟ و إن كانت الصين بعيدة، أليست جيبوتي و إثيوبيا أقرب؟
ما لذي يميز الصينيين عنا، هم عانوا من الفقر و التخلف و الاحتلال الياباني و كانوا إلى وقت قريب يطلبون دعم الأفارقة للانضمام إلى الأمم المتحدة ؟ متى ندرك أن العبرة ليست بالحزب الواحد أو الفرد الواحد و إنما بالإصرار و العزيمة و قدر كاف من الإخلاص و الوطنية و تقديس و احترام القوانين و القيم المجتمعية، ألم يحن الوقت للخروج من الفقاعة التي نعيش فيها و الاستيقاظ من حلم المؤامرة الكونية التي نتعرض لها و الكون لم يسمع بنا أصلا و لا يعرف إن كنا على الخريطة.
ألا نحتاج لتقوية شعورنا القومي و ليكن عبر نشيد جديد يحث على العمل و يزرع في النشء حب الوطن و التعلق و النهوض به كما في هذا المقطع من النشيد الوطني الصيني يقول « انهضوا يا من ترفضون أن تكونوا عبيدا، من دمنا.. من لحمنا … نبني لنا سورا عظيما جديدا ”
ألا تلاحظون أن فشل حكومتكم الشعبية يعني بالمحصلة فشل الحكومة الرسمية ؟