ليس عنصريًا مثل كولومبوس.. تعرف إلى البحار الصيني المسلم الذي سبقه بـ100 عام
قبل قدوم كريستوفر كولومبوس بنحو مئة عام (الذي فتح معه بابًا واسعًا لاستعباد أهل أمريكا الجنوبية الأصليين ومعاناتهم التي استمرت قرونًا كثيرة بعده)، وعلى ظهر أسطول كبير سمي «سفن الكنز» كان البحار الصيني العظيم تشنغ-خه (أو حجي محمود شمس كما سُمى بالعربية) يُبحر نحو أبعد الأراضي التي عرفتها الصين حينها ووصل خلال رحلاته إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ومدن بعيدة أخرى، ليسجّل نموذجًا مختلفًا للبحار الذي وصل إلى أراضٍ بعيدة نشر فيها السلام وحقق لبلاده مكاسب تفتخر بها حتى اليوم.
حملت سفنه خلال رحلات متعددة ملوكًا وسفراء من آسيا والجزيرة العربية وأفريقيا، والمحيط الهندي الى بيكن لتقديم الولاء إلى الإمبراطور الصيني وحضور افتتاح عاصمته المسورة المهيبة، واستعدادًا لعودتهم إلى بلادهم مًلئت السفن بالهدايا النفيسة لتعود بالضيوف الى هرمز وعدن ومومباسا وسريلانكا والهند واليابان وفيتنام وسومطرة يحملهم أسطول حجي شمس الضخم الذي لم تكن مهمة توصيلهم إلى بلادهم سوى مهمته الأولى التي أداها بنجاح فصار رجل السلام الذي تبتعثه الصين ليجوب المحيطات القريبة ثم البعيدة.
فما هي قصة ذلك البحار المسلم الذي تفتخر به الصين إلى اليوم؟
طفولته في أسرة مسلمة
تصف المصادر ضخامة سفنه التي بلغ طولها 137 مترًا وبلغ عرضها 55 مترًا، وهو ما كان يعتبر ثلاثة أضعاف حجم السفن الأوروبية حينها، فضلًا عن أنها تعتبر أضخم السفن التي صنعت من الخشب. وإن اعتقد بعض العلماء أن هناك شيئًا من المبالغة في وصف أبعاد السفينة، إلا أن الثابت أن حجي شمس قاد أسطولًا كبيرًا من تسعة مراكب شراعية ضخمة الحجم تحمل كل منها على متنها 500 بحارًا، ومع السفن الضخمة كانت هناك سفن أقل حجمًا خصصت لتحمل الخيول وحملت في طريق عودتها إلى الصين حيوانات مختلفة من أفريقيا.
وتكون الأسطول من 162 سفينة تحمل 30 ألف شخص، منهم بين الجنود والضباط والملاحين والبنائين والكتبة والمترجمين، يقودهم حجي شمس.
كان القائد الصيني ينتمي إلى أقلية مسلمة تعيش في محافظة يونان الصينية هي جماعة «هوي Hui»، تنحدر عائلته من آسيا الوسطى، وكانت قد وصلت إلى الصين في زمن حكم المغول. وكان اسمه في الأصل سان باو، وقد أُسر في طفولته في غارة قامت بها قوات الإمبراطور الصيني وتم خصيه ليكون في خدمة بلاط الإمبراطور-كما كانت العادة حينها- وأُطلق عليه اسم «تشنغ- خه».
تمكّن مع ذلك من الإلتحاق بالجيش وتقدّم الصفوف وشارك في العديد من الحملات التي منحته خبرة عسكرية كبيرة. وحين وصل الإمبراطور الصيني يونغلي إلى الحكم أمر ببناء أسطول كبير لتطوير طرق التجارة الجديدة، هروبًا من الحصار الذي تعرضت له طرق البر.
وكان الإمبراطور يهدف من خلال هذه الرحلات أيضًا إلى إبراز قوة بلاده والبحث أيضًا عن الإمبراطور الهارب وتصفية القوى الموالية له، وإقامة علاقات مع الدول الواقعة على الخط البحري جنوب غربي الصين، وكسب ود الشعوب إعداد بيئة سليمة يمكن للصين من خلالها أن تحقق القوة والاستقرار وتتيح التبادل التجاري والاقتصادي والثقافي مع الدول الآسيوية والأفريقية.
وعلى رأس الأسطول عين حجي شمس قائدًا فقام بسبع رحلات بين عامي 1405 و1430، وأسهم بشكل كبير في رسم الخرائط، ولعب دورًا دبلوماسيًا وتجاريًا بين الصين والموانئ البحرية مثل سومطرة وسريلانكا والهند وفيتنام وسنغافورة والفلبين وجزر المالديف ووصل إلى إيران والصومال وموزمبيق وجنوب أفريقيا. ويقول البعض إنه استطاع في عام حوالي عام 1421 الوصول إلى أمريكا عبر المحيط الهادي قبل كولومبوس، لكن لم تُعثر على أدلة تثبت ذلك حتى الآن.
مترجم: لماذا لم تسم أمريكا باسم كولومبوس؟
رحلات الكنز السبعة
قام حجي شمس بسبع رحلات بحرية زار خلالها أكثر من 50 بلدًا وقطع أكثر من 296 ألف كيلو متر، ورسم 41 طريقًا بحريًا، وكانت الصين حينها تمتلك أكبر قوة بحرية في تاريخها، وباع الصينيون خلال هذه الرحلات بضائعهم مثل الذهب والفضة والمخمل والحرير والصيني والأرز والفلفل وخشب الصندل والصمغيات.
في الرحلة الأولى وصل الأسطول إلى فيتنام وسومطرة وسيلان ثم هاجمه القراصنة فواجههم الأدميرال وانتصر عليهم وعاد مظفرًا إلى الصين يحمل بضائع نفيسة حصل عليها من التبادل التجاري مع البلدان التي وصل إليها، وفي رحلته الثانية أبحر حجي شمس لعامين على خط الرحلة البحرية الأولى نفسه في المحيط الهندي.
وفي الرحلة الثالثة واصل إبحاره في المحيط الهندي ووصل في الرحلة الرابعة إلى الغرب حيث الساحل الشرقي لأفريقيا وجلب معه لدى عودته زرافتين من أفريقيا لأول مرة إلى الصين، وكان الإمبراطور يرى في جلب الحيوانات المختلفة حظًا سعيدًا وفأل خير، وفي الرحلة الخامسة كانت مهمة حجي شمس هي حماية واصطحاب مبعوثي 19 دولة ليعودوا إلى بلدانهم، ووصل أسطوله في تلك المرة إلى أقصى جنوب ساحل أفريقيا الشرقي.
ثم انطلق في يوليو (تموز) عام 1421 في رحلته السادسة لاصطحاب مبعوثي 16 دولة إلى بلدانهم، ووصل إلى ميناء ممباسي في غينيا وإلى الصومال، وأخيرًا وصل في رحلته السابعة التي استغرقت سبع سنوات إلى مكة المكرمة وأرسل من معه لأداء فريضة الحج، وفقدت وثائق رحلتين بحريتين له يُعتقد أنهما وصلتا إلى أبعد الأراضي، بحيث لم يتضح إلى أين أبحر تشينغ في هاتين الرحلتين، يقول البعض إنه توجه إلى فارس، ويرى أخرون أنه اتجه إلى أقصى قناة موزمبيق بدليل اكتشاف مصنوعات صينية أثرية هناك.
كتب حجي شمس عن رحلاته يقول: «لقد سافرنا أكثر من 100 ألف لي (وهو ما يعادل خمسين ألف كيلو متر) من مساحات البحر الهائلة، وشاهدنا في المحيط أمواجاً عظيمة كالجبال ترتفع إلى السماء، ولقد وقعت أنظارنا على مناطق بربرية بعيدة مخبئة تحت أبخرةٍ زرقاء خفيفة وشفافة، بينما كانت أشرعتنا تُنشر مثل الغيوم ليلاً ونهاراً مواصلة سيرها بسرعة النجوم، مخترقة تلك الأمواج الوحشية، وكأننا كنا نمشي على طريق عام».
بعد تلك الرحلات الطويلة التي أثقلت كاهل الإمبراطورية الصينية بنفقاتها، قرر الإمبراطور الصيني الذي خلف يونغلي أن تتوقف الرحلات البحرية لسفن الكنز، وفتح بابًا لم يُغلق من التساؤلات حول الأراضي التي كان بوسع القائد الصيني العظيم أن يصلها لو لم تتوقف رحلاته عند هذا الحد، هل كان حقًا سيصل إلى أمريكا إن لم يكن قد وصلها، لن يعلم ذلك أحد أبدًا، المؤكد أن الصين قررت ببساطة أن تتوقف إحدى أعظم إنجازاتها وتركت الباب مفتوحًا ليدخل البحارة الأوروبيون بقوة ويسجلوا هم الوصول إلى الأراضي الجديدة.
ورست سفينة البحار أخيرًا في مدينة نانجينغ الصينية وتحديداً في جينغهاي عند سفح جبل شيتسي وبقي هناك حتى وفاته عام 1435 عن عمر يناهز الرابعة والستين.
كيف سبق كبار البحارة الأوروبيين ونشر الإسلام؟
يقول الباحث البريطاني جافين منزيس مؤلف كتاب «الصين اكتشفت العالم عام 1421»، أن المستكشف البرتغالي ماجلان الذي اكتشف طريقًا جديدًا إلى الهند استعان في رحلاته البحرية بالخرائط الصينية التي رُسمت بفضل رحلات حجي شمس. ويرى جافين منزيس أن حجي شمس اكتشف أمريكا قبل كولمبوس وأن كولومبوس استخدم خرائط البحار الصيني للوصول إلى أمريكا عام 1492.
وتقول بعض المصادر إنه سبق البحارين البرتغاليين فاسكو دي جاما الذي كان أول من يسافر من أوروبا إلى الهند بحرًا، وماجيلان أيضًا الذي أبحر من إسبانيا غربًا في بحث عن طريق نحو جزر التوابل في إندونيسيا، ووصل إلى سواحل إلى أستراليا قبل كوك.
على أن البحارة الأوروبيين الذين اهتدوا بخرائط حجي شمس لم يقتدوا أبدًا بسيرته في الأراضي التي وصل إليها، فبينما راحوا يستعبدون السكان الأصليين للبلاد التي وصلوا إليها وينقلون ثرواتها إلى أوروبا، كان حجي شمس يحقق لبلاده مصالح تجارية وعلاقات متينة دون أي عنف.
إلى اليوم تعيد الكثير من الدول الأوروبية ودول أمريكا اللاتينية النظر في سيرة كريستوفر كولومبوس ويتزايد الرافضون للاحتفال بوصوله إلى الأراضي الجديدة لما تبِعه من إبادة جماعية للسكان الأصليين اعتبره المؤرخين مسؤولاً عنها، حتى أن المؤرخ البريطاني روجر كرولي اعتبره «الأب المؤسس الإبادة الجماعية في العالم الجديد».
ويقول كارلوس مارتينيز شو الأستاذ الفخري للتاريخ الحديث في الجامعة الوطنية للتعليم عن بعد عن كولومبوس أن إنجازاته في مجال الملاحة واستعمار مساحة جديدة أخفت لوقت طويل جانبًا مظلم من شخصيته فقد كانت الدوافع الرئيسية لما قام به هي الرغبة في العثور على الذهب والتوابل، وهكذا دمر في طريقه- هو ومن معه- حياة السكان الأصليين باستعبادهم في العمل الشاق لاستخراج الكنوز فضلاً عن نهب أراضيهم وتفريق عائلاتهم.
أما حجي شمس فقد استطاع أن يقيم علاقات طيبة مع أهل البلاد التي وصل إليها دون أي عنف، واصطحب خلال رحلاته الكثير من المسلمين بينهم المترجمين الذين يعرفون العربية، وكان لهؤلاء دور في استقرار الإسلام بالجزر التي وصلوا إليها، في الجزر الاندونيسية جاوا وسومطرة وبورنيو وغيرها، حيث وجد شمس جاليات صغيرة من المسلمين، كان يساندهم بقوة ليستقر الإسلام في تلك المناطق، فضلًا عن أنه أسس داخل الصين مجتمعات إسلامية في باليمبانج، وعلى طول جاوا وشبه جزيرة الملايو والفلبين، وساعد أسطوله في بناء المساجد ما أسهم في انتشار الإسلام بين السكان المحليين.
بعد وفاة حجي شمس واصل المسلمون الصينيون العمل في جنوب شرق آسيا لنشر الإسلام وانتشر الزواج بين التجار الصينيين ومسلمي جنوب شرق آسيا.
نموذج يظهر الفارق بين سفينة حجي شمس الضخمة والسفينة التي حملت كولومبوس – مصدر الصورة
تقدير خاص
حتى اليوم تفخر الصين ببحارها العظيم الذي كان أيضًا دبلوماسيًا محنكًا وقام برحلات طويلة اكتشف فيها الكثير من الأراضي وضرب في الوقت نفسه نموذجًا مختلفًا عن النموذج الاستعماري للبحارة الأوروبيين، فلم يرتكب أي أعمال عنف باستثناء التصدي للقراصنة الذين اعترضوه.
ويعتبره الصينيون شخصية تاريخية بارزة ويفخرون بأنه كان بحارًا عظيمًا ومستكشفًا رائدًا استطاع تحقيق أهدافه دون استخدام القوة، ولهذا لقي ترحابًا من أهل المدن التي حلّ بها، وكان يقيم صداقات معهم ويتبادل الهدايا والثقافة والمعرفة والعلم، فصار رجل السلام الذي جاب المحيطات دون أن يُقدم على ما فعله كريستوفر في الهنود الحمر ولا ما فعله كوك في سكان أستراليا الأوائل.
ويحمل علماء الدين في إندونيسيا تقديرًا خاصًا للأدميرال الصيني ويرون أن رحلاته كان الفضل في في توطيد الإسلام في بلادهم، وفي عام 2005 احتفلت إندونيسيا بذكرى مرور 600 عام على انطلاق حجي شمس في رحلاته البحرية ببناء مسجد يحمل اسمه في مدينة سورابايا في جزيرة جاوة الإندونيسية.
وفي إندونيسيا تحمل مدينتان اسم القائد العظيم إحداهما هي سان باو دونغ والأخرى هي سان باو دون، وفي تايلاند يحمل اسمه ميناء سان باو ومعبد سان باو. كما يربط بعض الباحثين بين القائد الصيني العظيم وبين السندباد في الأدب الشعبي العربي ويرون أن اسم «سندباد» استُوحي من اسم «سان باو» من الاسم الأصلي لحجي شمس.
ساسة بوست